فصل: تفسير الآية رقم (200)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ولقد عفا عنكم إذ تُصْعِدُون هاربين، وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلمي والحسن وقتادة ‏{‏تُصْعِدُونَ‏}‏ بفتح التاء والعين والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين‏.‏

والإصعاد‏:‏ السيرُ في مستوى الأرض والصُّعود‏:‏ الارتفاع على الجبال والسطوح، قال أبو حاتم‏:‏ يقال أصعدتَ إذا مضيتَ حيالَ وجهك وصعدتَ إذا ارتقيتَ في جبل أو غيره، وقال المبرد‏:‏ أصعد إذا أبعد في الذهاب، وكلتا القراءتين صواب فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد وقال المفضل‏:‏ صعد وأصعد وصعَّد بمعنى واحد‏.‏

‏{‏وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَد‏}‏ أي‏:‏ لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، ‏{‏وَالرَّسُول يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في آخركم ومن ورائكم إليّ عبادَ الله فأنا رسول الله من يكرُّ فله الجنة، ‏{‏فَأَثَابَكُمْ‏}‏ فجازاكم جعل الإثابة بمعنى العقاب، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ جعل البشارة في العذاب ومعناه‏:‏ جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون ‏{‏غمًّا بغم‏}‏ وقيل‏:‏ الباء بمعنى على أي‏:‏ غمًا على غمٍّ وقيل‏:‏ غمَّا متصلا بغمٍّ فالغمُّ الأول‏:‏ ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغمُّ الثاني‏:‏ ما نالهم من القتل والهزيمة‏.‏

وقيل‏:‏ الغم الأولُّ ما أصابهم من القتل والجراح، والغم الثاني‏:‏ ما سمعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغمَّ الأول‏.‏

وقيل‏:‏ الغم الأول‏:‏ إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين، والغم الثاني‏:‏ حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهمًا في قوسه وأراد أن يرميه، فقال أنا رسول الله ففرحوا حين وجدوأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم أهمّهمْ ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس لهم أن يعلونا اللّهم إن تقتل هذه العصابة لا تُعبد في الأرض، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم غمّوا الرسول بمخالفة أمره، فجازاهم الله بذلك الغمَّ غمَّ القتل والهزيمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من الفتح والغنيمة، ‏{‏وَلا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة، ‏{‏وَاللَّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ‏(‏154‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يا معشر المسلمين، ‏{‏مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا‏}‏ يعني‏:‏ أمنًا والأمنَ الأمَنَةَ بمعنى واحد وقيل‏:‏ الأمنَ يكون مع زوال سبب الخوف والأمَنَةُ مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما، ‏{‏نُعَاسًا‏}‏ بدل من الأمنة ‏{‏يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏ تغشى ‏"‏ بالتاء ردًّا إلى الأمَنَةِ وقرأ الآخرون بالياء ردًّا على النعاس‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أمنّهم يومئذ بنُعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن، أنا حسين بن محمد، أخبرنا شيبان عن قتادة أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال‏:‏ غشيَنَا النعاسُ ونحن في مصافنّا يوم أحد قال‏:‏ فجعل سيفي يسقط من يدي فآخذه ويسقط وآخذه‏"‏‏.‏

وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال‏:‏ رفعت رأسي يوم أُحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جُحفتهِ من النعاس‏.‏

وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ علينا الحرب، أرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم، يقول‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين، ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين‏:‏ قيل‏:‏ أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين فأوقع النعاسَ على المؤمنين حتى أمِنُوا ولم يُوقع على المنافقين فبقوا في الخوف وقد أهمّتْهم أنفسُهم أي‏:‏ حملتهم على الهمِّ يقال‏:‏ أمرٌ مهمُّ‏.‏

‏{‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا ينصر محمدًا، وقيل‏:‏ ظنوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل، ‏{‏ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ أي‏:‏ كظن أهل الجاهلية والشرك، ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ لَنَا‏}‏ ما لنا لفظهُ استفهام ومعناه‏:‏ حجدٌ، ‏{‏مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ يعني‏:‏ النصر، ‏{‏قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّه لِلَّهِ‏}‏ قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في ‏{‏لِلَّه‏}‏ وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل‏:‏ على النعت‏.‏

‏{‏يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا‏}‏ وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض‏:‏ لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمدٍ إلى قتال أهل مكة ولم يُقتل رؤساؤنا، وقيل‏:‏ لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا‏.‏

قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية يعني‏:‏ التكذيب بالقدر وهو قولهم ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا‏}‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ‏}‏ قضي، ‏{‏عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ مصارعهم، ‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ‏}‏ وليمتحن الله، ‏{‏مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ‏}‏ يخرج ويظهر ‏{‏مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ بما في القلوب من خير وشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ‏}‏ أي انهزموا، ‏{‏مِنْكُمْ‏}‏ يا معشر المسلمين، ‏{‏يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلا ستة من المهاجرين‏:‏ وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُم الشَّيْطَانُ‏}‏ أي‏:‏ طلب زلّتهم كما يقال‏:‏ استعجلت فلانًا إذا طلبت عجلته وقيل‏:‏ حملهم على الزَّلَة وهي الخطيئة وقيل‏:‏ أزلَّ واستزلَّ بمعنى واحد، ‏{‏بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ بشؤْم ذُنوبهم، قال بعضهم‏:‏ بتركهم المركز، وقال الحسن‏:‏ ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة، ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 159‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، ‏{‏وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ‏}‏ في النفاق والكفر وقيل‏:‏ في النسب، ‏{‏إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْض‏}‏ أي‏:‏ سافروا فيها لتجارة أو غيرها، ‏{‏أَوْ كَانُوا غُزًّى‏}‏ أي‏:‏ غزاة جمع غاز فقتلوا، ‏{‏لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّه ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ قولهم وظنهم، ‏{‏حَسْرَةً‏}‏ غمًّا ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّه يُحْيِي وَيُمِيت وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏"‏ يعملون ‏"‏ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ‏}‏ قرأ نافع وحمزة والكسائي ‏"‏ مِتَّمْ ‏"‏ بكسر الميم وقرأ الآخرون بالضم فمن ضمه فهو من مات يموت كقولك‏:‏ من قال يقول قلتُ بضم القاف ومن كسره فهو من مات يمات كقولك من خاف يخاف‏:‏ خفتُ، ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ في العاقبة، ‏{‏وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من الغنائم قراءة العامة، ‏"‏تجمعون‏"‏‏)‏ بالتاء لقوله ‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ‏}‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏يَجْمَعُونَ‏}‏ بالياء يعني‏:‏ خير مما يجمع الناس‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ في العاقبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ فبرحمة من الله و‏"‏ما‏"‏ صلة كقوله ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ‏}‏ ‏{‏لِنْتَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ سَهُلتْ لهم أخلاقُك وكثرةُ احتمالك ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحد، ‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا‏}‏ يعني‏:‏ جافيًا سيّء الخلق قليل الاحتمال، ‏{‏غَلِيظَ الْقَلْبِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ فظًّا في القول غليظ القلب في الفعل، ‏{‏لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ لنفروا وتفرقوا عنك، يقال‏:‏ فضضتُهم فانفضُّوا أي فرقتهم فتفرقُوا ‏{‏فَاعْف عَنْهُمْ‏}‏ تجاوز عنهم ما أتوا يوم أُحد، ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ حتى أشفعك فيهم، ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر‏}‏ أي‏:‏ استخرج آراءهم واعلم ما عندهم من قول العرب‏:‏ شُرتُ الدابة وشَورتُها إذا استخرجت جريَها وشرتُ العسلَ وأشرتهُ إذا أخذتهُ من موضعه واستخرجتهُ‏.‏

واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبُّوا وكرهوا‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ هو خاص في المعنى أي‏:‏ وشاروهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد، قال الكلبي‏:‏ يعني ناظرْهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو‏.‏

وقال مقاتل وقتادة‏:‏ أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييبًا لقلوبهم، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده‏.‏

أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي‏:‏ أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ما هان، أخبرني أبي، أخبرنا طلحة بن زيد، عن عقيل عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ لا على مشاورتهم أي‏:‏ قُمْ بأمر الله وثق به واستعنه، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكِّلِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُم اللَّهُ‏}‏ يُعنكْمُ الله ويمنعكم من عدوكم، ‏{‏فَلا غَالِبَ لَكُمْ‏}‏ مثل يوم بدر، ‏{‏وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ‏}‏ يترككم فلم ينصركم كما كان بأُحد والخذلان‏:‏ القعودُ عن النُّصرة والإسلامُ للهلَكة، ‏{‏فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ من بعد خذلانه، ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ قيل‏:‏ التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل‏:‏ أن لا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله ولا لرزقك خازنًا غيره ولا لعملك شاهدا غيره‏.‏

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزَّار ببغداد، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري، أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يدخل سبعون ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله مَنْ هم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هم الذين لا يكتوون ولا يسَتْرقُون ولا يتطيرّون وعلى ربهم يتوكلون‏"‏ فقال عكاشة بن محصن‏:‏ يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم قال‏:‏ ‏"‏أنت منهم‏"‏ ثم قام آخر فقال‏:‏ يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم فقال‏:‏ ‏"‏سبقك بها عكاشة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن حياة بن شريح، حدثني بكر بن عمرو، عن عبد الله بن هبيرة، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لو أنكم تتوكّلوُن على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ الآية روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ نزلت في غنائم أُحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا‏:‏ نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركزَ حتى يأتيكم أمري‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ تركنا بقية إخواننا وقوفًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم‏"‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنها نزلت في طائفة غلّت من أصحابه‏.‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ فيعطي قومًا ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ هذا في الوحي، يقول‏:‏ ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ‏}‏ قرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم ‏"‏يغل‏"‏‏)‏ بفتح الياء وضم الغين معناه‏:‏ أن يخون والمراد منه الأمة وقيل‏:‏ اللام فيه منقولة معناه‏:‏ ما كان النبي ليَغُل وقيل‏:‏ معناه ما كان يظن به ذلك ولا يليق به، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين، وله وجهان أحدهما‏:‏ أن يكون من الغلول أيضًا أي‏:‏ ما كان لنبي أن يُخان يعني‏:‏ أن تخونه أُمّتُه والوجه الآخر‏:‏ أن يكون من الإغلال، معناه‏:‏ ما كان لنبي أن يخون أي يُنسب إلى الخيانة‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له‏:‏ انزلْ فخذْه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يُكلف أن ينزل إليه، فيخرجه ففعل ذلك به‏.‏

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى بن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع، قال فوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا أسود يقال له مِدْعَمٌ قال فخرجنا حتى إذا كنّا بوادي القرى فبينما مِدْعَمٌ يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عَائر فأصابه فقتله فقال الناس‏:‏ هنيئًا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا‏"‏ فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بِشرَاكٍ أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏شِراك من نار أو شراكان من نار‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا إبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد الجهني، قال‏:‏ توفي رجل يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏صلوا على صاحبكم‏"‏ فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن صاحبكم قد غلّ في سبيل الله‏"‏ قال‏:‏ ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرزات اليهود يساوين درهمين‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن أبي حميد الساعدي قال‏:‏ استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يُقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قَدِمَ قال‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال‏:‏ ‏"‏ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلسَ في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيُهْدَى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رُغاء أو

بقرة لها خُوار أو شاة لها تَيْعر‏"‏ ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهمَّ هل بلغتُ‏"‏‏.‏

وروى قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال‏:‏ ‏"‏لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول، ومن يغْلُلْ يأت بما غَلَّ يوم القيامة‏"‏‏.‏

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعَه واضربُوه‏"‏‏.‏

وروي عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقُوا متاع الغالّ وضربوه‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ‏}‏ وترك الغلول، ‏{‏كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّه‏}‏ فعل، ‏{‏وَمَأْوَاه جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

‏{‏هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ ذو درجات عند الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعني من اتّبع رضوانَ الله ومن باءَ بسخَطٍ من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم، ولمن باء بسخط من الله العذابُ الأليم‏.‏ ‏{‏وَاللَّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 165‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به العرب لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني تعلبة دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ‏}‏ وقال الآخرون‏:‏ أراد به جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بالإيمان والشفقة لا بالنسب ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته وَيُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ‏}‏ وقد كانوا، ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل بعثه ‏{‏لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمَّا‏}‏ أي‏:‏ حين ‏{‏أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ بأُحد، ‏{‏قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا‏}‏ يوم بدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحد سبعين وقتل المسلمون منهم ببدر سبعين وأسروا سبعين، ‏{‏قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا‏}‏ من أين لنا هذا القتلُ والهزيمةُ ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا‏؟‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، فقالوا‏:‏ يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنقوى بها على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أُحد سبعون عدد أسارى أهل بدر فهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بأخذكم الفداء واختياركم القتل، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 169‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏ بأحد من القتل والجرح والهزيمة، ‏{‏فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بقضائه وقدره، ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ ليُميزّ وقيل ليرى‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لأجل دين الله وطاعته، ‏{‏أَوِ ادْفَعُوا‏}‏ عن أهلكم وحريمكم، وقال السدي‏:‏ أي كثرّوا سوادَ المسلمين ورابطوا إن لم تُقاتلوا يكونُ ذلك دفعاً وقمعا للعدو، ‏{‏قَالُوا لَوْ نَعْلَم قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ‏}‏ وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا عن أُحد وكانوا ثلاثمائة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ‏}‏ أي‏:‏ إلى الكفر يومئذ أقربُ ‏{‏مِنْهُمْ لِلإيمَانِ‏}‏ أي‏:‏ إلى الإيمان، ‏{‏يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم‏}‏ يعني‏:‏ كلمة الإيمان ‏{‏مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّه أَعْلَم بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ‏}‏ في النسب لا في الدين وهم شهداء أُحد ‏{‏وَقَعَدُوا‏}‏ يعني‏:‏ قعد هؤلاء القائلون عن الجهاد ‏{‏لَوْ أَطَاعُونَا‏}‏ وانصرفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وقعدوا في بيوتهم ‏{‏مَا قُتِلُوا قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏فَادْرَءُوا‏}‏ فادفعوا، ‏{‏عَنْ أَنْفُسِكُم الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ إن الحذر لا يغني عن القدر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏ الآية قيل‏:‏ نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال‏:‏ سألنا عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنهما عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ الآية قال أما أنّا قد سألنا عن ذلك فقال‏:‏ ‏"‏أرواحهم كطير خضر‏"‏ ويروى ‏"‏في جوف طير خضر لها قناديلُ معلقة بالعرش تسرحُ من الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربُّك اطلاعة فقال‏:‏ سلوني ما شئتم فقالوا‏:‏ يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا‏؟‏ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا‏:‏ إنا نسألك أن تردَّ أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تُركوا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، أنا جيعوية أنا صالح بن محمد، أنا سليمان بن عمرو، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لما أصيب إخوانُكم يوم أُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترد أنهارَ الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيثُ شاءتْ وتأوي إلى قناديلَ من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعدَّ الله لهم من الكرامة قالوا‏:‏ ياليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبرٌ عنكم ومبلغٌ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا يُضِيع أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏"‏‏.‏

سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي، قال‏:‏ سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال‏:‏ سمعتُ محمد بن عبد الله بن يوسف قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل البكري، قال‏:‏ سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال‏:‏ سمعتُ موسى بن إبراهيم قال‏:‏ سمعت طلحة بن خراش قال‏:‏ سمعتُ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول‏:‏ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ ‏"‏يا جابر ما لي أراك منكسرا‏"‏‏؟‏ قلتُ يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينًا قال‏:‏ ‏"‏أفلا أبشرك بما لقي الله به أباكَ‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلّمه كفاحًا قال‏:‏ يا عبدي تمنَّ عليّ أعطِك قال‏:‏ يا ربِّ أحيني فأقتل فيك الثانية، قال الرب تبارك وتعالى‏:‏ إنه قد سبق منيّ أنهم لا يرجعون فأنزلت فيهم ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر، أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من عبد يموتُ له عند الله خيرٌ يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا وأنّ له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يَرَى من فضلِ الشهادة، فإنه يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال‏:‏ قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، مُلاعِبُ الأسِنَّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك، فأسِلْم إن أردتَ أن أقبل هديتَك‏؟‏ ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعدّ الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يُسلم، ولم يبعد وقال‏:‏ يا محمد إن الذي تدعو إليه حسنٌ جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوتُ أن يستجيبوا لك‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أخشى عليهم أهل نجد‏"‏‏.‏

فقال أبو البراء‏:‏ أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك‏.‏

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصِّمَّة وحرام بن مِلْحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد ابن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد، فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء‏؟‏ فقال حرام بن مِلحان‏:‏ أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن مِلحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان‏:‏ يا أهل بئر معونة إني رسولُ رسولِ الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال‏:‏ الله أكبر فزتُ وربِّ الكعبة‏.‏

ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا‏:‏ لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدًا وجوارًا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سُلَيْم- عُصَيَّة ورِعْلا وذكوان- فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القومَ فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتثَّ من بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قُتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر‏!‏ فقالا والله إن لهذا الطير لشأنًا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري‏:‏ ماذا ترى‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجزَّ ناصيتهَ وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمِّه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هذا عمل أبي براء قد كنتُ لهذا كارها متخوفا‏"‏ فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفارُ عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره‏.‏

وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول‏:‏ مَنِ الرجلُ منهم لما قتل رأيته رُفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه‏؟‏ قالوا‏:‏ هو عامر بن فهيرة، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الأعلى بن حماد، أنا يزيد بن زريع، أنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك‏:‏ ‏"‏أن رِعْلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدَّهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رِعْلٍ وذكوان وعصية وبني لحيان‏.‏

قال أنس رضي الله عنه‏:‏ فقرأنا، فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رَفع‏:‏ ‏"‏بَلِّغُوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا‏"‏ ثم نسخت فرفع بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء، وقالوا‏:‏ نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ‏}‏ ولا تظننّ ‏{‏الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏"‏قتلوا‏"‏ بالتشديد، والآخرون بالتخفيف ‏"‏أمواتا ‏"‏‏)‏ كأموات من لم يُقْتلْ في سبيل الله ‏{‏بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ قيل أحياء في الدِّين وقيل‏:‏ في الذكر، وقيل‏:‏ لأنهم يُرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء، وقيل‏:‏ لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض‏.‏

وقال عبيدة بن عمير‏:‏ مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، ألا فاتوهم وزوروهم وسلِّموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يُسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه‏"‏‏.‏ ‏{‏يُرْزَقُونَ‏}‏ من ثمار الجنة وتحفها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ رزقه وثوابه، ‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ويفرحون ‏{‏بِالَّذِين َلَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا ولحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فهم لذلك مستبشرون، ‏{‏أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 172‏]‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وبأن الله، وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف‏.‏

‏{‏لا يُضِيع أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تكَفَّلَ الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجُه من بيته إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرجَ منه مع ما نال من أجر وغنيمة‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده لا يُكْلَمُ أحد في سبيل الله- والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعبُ دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا علي بن الحسن الدارابجردي أنا عبد الله بن يزيد المقرئ، أنا سعيد، حدثني محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الشهيدُ لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألمَ القَرْصَةِ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ الآية، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أُحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا‏:‏ لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم‏؟‏ ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرهب العدو ويُريهم من نفسه وأصحابه قوةً فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أُحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا لا يخرجَنَّ معنا أَحدٌ إلا من حضر يومنا بالأمس فكلّمه جابر بن عبد الله، فقال‏:‏ يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجلَ فيهنَّ ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلفْ على أخواتك، فتخلفتُ عليهن فأذِنَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه‏.‏

وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهبًا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال‏.‏

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير‏:‏ يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك- تعني أبا بكر والزبير- لِمَنَ الذين قال الله عز وجل فيهم‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ‏}‏ فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة- مسلمهم وكافرهم- عيبة نصحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتُهم معه لا يُخفونَ عنه شيئًا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال‏:‏ يا محمد والله لقد عزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ لقد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم لنكرنَّ على بقيتهم فلنفرغنَّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدًا قال‏:‏ ما وراءك يا معبدَ‏؟‏ قال‏:‏ محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ونَدِموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيءٌ لم أر مثله قط، قال‏:‏ ويلك ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال‏:‏ فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال‏:‏ فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتًا‏:‏

كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصواتِ رَاحلَتي *** إذْ سَالَتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ

فذكر أبياتا فردّ ذلك أبا سفيان ومن معه‏.‏

ومرّ به ركب من عبد القيس فقال‏:‏ أين تريدون‏؟‏ قالوا‏:‏ نريد المدينة قال‏:‏ ولم‏؟‏ قالوا‏:‏ نريد الميرة قال‏:‏ فهل أنتم مبلّغون عني محمدًا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبًا بعكاظ غدًا إذا وافيتمونا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏:‏ ‏"‏حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل‏"‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة‏.‏ هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرَى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال‏:‏ يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ذلك بيننا وبينك إن شاء الله‏"‏ فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مرّ الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نُعَيْمَ بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرًا فقال له أبو سفيان‏:‏ يا نعيم إني واعدتُ محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإنّ هذه عام جدب ولا يُصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأةً ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فَالْحَقْ بالمدينة فثبِّطْهم وأعلمْهم أنِّي في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال‏:‏ فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد‏:‏ أتضمن لي هذه القلائص وأنطلق إلى محمد وأثبّطه‏؟‏ قال‏:‏ نعم فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال‏:‏ أين تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ واعدَنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها فقال‏:‏ بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقرارِكم فلم يفلت منكم إلا الشريدُ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفس محمد بيده لأخرجَنَّ ولو وحدي‏"‏ فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال‏:‏ ‏"‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏"‏‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرًا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى بلغوا بدرًا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدًا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ أي أجابوا ومحل ‏"‏الذين‏"‏ خفض على صفة المؤمنين تقديره‏:‏ إن الله لا يُضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول، ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُم الْقَرْحُ‏}‏ أي‏:‏ نالتهم الجراح تم الكلام هاهنا ثم ابتداء فقال‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ‏}‏ بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو، ‏{‏وَاتَّقَوْا‏}‏ معصيته ‏{‏أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 174‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ‏}‏ ومحل ‏"‏الذين ‏"‏ خفض أيضا مردودُ على الذين الأول وأراد بالناس‏:‏ نعيم بن مسعود، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة‏:‏ أراد بالناس الركب من عبد القيس، ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ‏}‏ يعني أبا سفيان وأصحابه، ‏{‏فَاخْشَوْهُمْ‏}‏ فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم، ‏{‏فَزَادَهُمْ إِيمَانًا‏}‏ تصديقًا ويقينًا وقوةً ‏{‏وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ كافينا الله، ‏{‏وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ أي‏:‏ الموكول إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن يونس، أخبرنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَانْقَلَبُوا‏}‏ فانصرفوا، ‏{‏بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ بعافية لم يلقوا عدوا ‏{‏وَفَضْلٍ‏}‏ تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق ‏{‏لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ‏}‏ يصبهم أذى ولا مكروه، ‏{‏وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه‏}‏ في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا‏:‏ هل يكون هذا غزوًا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم، ‏{‏وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 178‏]‏

‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ‏}‏ يعني‏:‏ ذلك الذي قال لكم‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ‏}‏ من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنُوُا عنهم، ‏{‏يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني‏:‏ يخوّف المؤمنين بالكافرين قال السدي‏:‏ يعظّم أولياءَهُ في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود ‏"‏يخوفكم أولياءه‏"‏‏)‏ ‏{‏فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ‏}‏ في ترك أمري ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا يَحْزُنْكَ‏}‏ قرأ نافع ‏"‏ يحزنك ‏"‏ بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع القرآن إلا قوله ‏{‏لا يحزنهم الفزعُ الأكبرُ‏}‏ ضدّه أبو جعفر وهما لغتان‏:‏ حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن، ‏{‏الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هم كفار قريش وقال غيره‏:‏ هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا‏}‏ بمسارعتهم في الكفر، ‏{‏يُرِيد اللَّه أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ‏}‏ نصيبًا في ثوابِ الآخرة، فلذلك خَذَلهم حتى سارعوا في الكفر، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا‏}‏ استبدلوا ‏{‏الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا‏}‏ وإنما يضرون أنفسهم، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء ‏"‏فالذين ‏"‏ في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرًا، ومن قرأ بالتاء يعني‏:‏ ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا، وإنما نصب على البدل من الذين، ‏{‏أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ‏}‏ والإملاء الإمهال والتأخير، يقال‏:‏ عشت طويلا حميدًا وتمليت حينًا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏واهجرني مليا‏"‏ ‏(‏مريم- 46‏)‏ أي‏:‏ حينا طويلا ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ‏}‏ نمهلهم ‏{‏لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏‏.‏

قال مقاتل‏:‏ نزلت في مشركي مكة وقال عطاء‏:‏ في قريظة والنضير‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدِيّ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من طال عمُرُه وحَسُنَ عمَلُه‏"‏ قيل‏:‏ فأي الناس شر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من طال عمرُه وساء عمَلُه‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏179‏]‏

‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ اختلفوا فيها، فقال الكلبي‏:‏ قالت قريش‏:‏ يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يُؤمن بك وبمن لا يُؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال السدي‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عُرضتْ علي أمتي في صورها في الطين كما عُرِضتْ على آدم وأُعْلِمْتُ من يؤمن بي ومن يكفر بي‏"‏ فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء‏:‏ زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد، ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏"‏ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به‏"‏ فقام عبد الله بن حذافة السهمي‏:‏ فقال‏:‏ من أبي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ حذافة فقام عمر فقال‏:‏ يا رسول الله رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبيًا فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فهل أنتم منتهون‏"‏‏؟‏ ثم نزل عن المنبر فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

واختلفوا في حكم الآية ونظمها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين‏:‏ الخطاب للكفار والمنافقين يعني ‏{‏مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ‏{‏حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، معناه‏:‏ ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب‏.‏

‏{‏حَتَّى يَمِيزَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، وقرأ الباقون بالخفيف يقال‏:‏ ماز الشيء يميزُه ميزًا وميزّه تمييزًا إذا فرّقه فامتاز، وإنما هو بنفسه، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت‏:‏ مزت ميزًا، فإذا كانت أشياء قلت‏:‏ ميزتها تمييزًا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت‏:‏ فَرَقَت بالتخفيف ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت‏:‏ فرَّقته تفريقًا، ومعنى الآية حتى يميزَ المنافق من المخلص، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ‏}‏ وهو المذنب ‏{‏مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ وهو المؤمن يعني‏:‏ حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة، ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ‏}‏ لأنه لا يعلم الغيب أحدٌ غيره، ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ فيُطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول‏"‏ سورة الجن الآيتان‏:‏ 26، 27‏)‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ معناه وما كان الله ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه، ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم، ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ البخل، ‏{‏شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ سوف يطوقون ‏{‏مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ يعني‏:‏ يجعل ما منعه من الزكاة حيَّةً تُطَوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا علي بن عبد الله المديني، أنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاتَه مُثّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطَوَّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول‏:‏ أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا ‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ‏}‏ الآية‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ انتهيت إليه يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏.‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحُه بقرونها كلّما جازت أُخراها رُدتْ عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس‏"‏‏.‏

قال إبراهيم النخعي‏:‏ معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقًا من النار قال مجاهد‏:‏ يَكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم‏.‏

وروى عطية عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء ‏"‏الذين يبخلونَ ويأمرون الناس بالبخل ويكتمُوُن ما آتاهم الله من فضله‏"‏ النساء- 37‏)‏‏.‏

ومعنى قوله ‏"‏سيطُوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏"‏ أي‏:‏ يحملون وزرَه وإثمهُ كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وهم يحملون أوزارَهم على ظهورهم‏"‏ الأنعام- 31‏)‏‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إنا نحن نرثُ الأرض ومن عليها‏"‏ مريم- 40‏)‏ ‏{‏وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ قرأ أهل البصرة ومكة يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏181‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ‏}‏ قال الحسن ومجاهد‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ قالت اليهود‏:‏ إن الله فقير استقرض منّا ونحن أغنياء، وذكر الحسن‏:‏ أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب‏.‏

وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق‏:‏ كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسًا كثيرًا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له أشيع‏.‏ فقال أبو بكر لفنحاص‏:‏ اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة فآمِنْ وصَدِّقْ وأقْرِضِ الله قرضًا حسنًا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثوابَ‏.‏

فقال فنحاص‏:‏ يا أبا بكر تزعم أن ربَّنا يستقرضُ أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني‏؟‏ فإن كان ما تقول حقًا فإن الله إذًا لفقير ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيًا ما أعطانا الربا‏.‏

فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربةً شديدةً وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربتُ عُنقَك يا عُدوَّ الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ما حملك على ما صنعت‏"‏‏؟‏

فقال‏:‏ يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيمًا زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبتُ لله فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله تعالى ردًّا على فنحاص وتصديقًا لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ‏}‏ ‏"‏

‏{‏سَنَكْتُب مَا قَالُوا‏}‏ من الإفك والفرية على الله ‏{‏فنجازيهم به‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ سنحفظ عليهم، وقال الواقدي‏:‏ سنأمر الحفظة بالكتابة، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا له كاتبون‏}‏، ‏{‏وَقَتْلَهُم الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُول ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ قرأ حمزة ‏"‏سيكتب‏"‏ بضم الياء، ‏"‏ وقتلهم ‏"‏ برفع اللام ‏"‏ويقول‏"‏ بالياء و ‏{‏ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ أي‏:‏ النار وهو بمعنى المحرق كما يقال‏:‏ لهم عذاب أليم أي‏:‏ مؤْلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 183‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ فيُعذب بغير ذنب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ الآية قال الكلبي‏:‏ نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك الكتاب وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة ‏{‏أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ‏}‏ يزعم أنه جاء من عند الله، ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُه النَّارُ‏}‏ فإن جئتنا به صدقناك؛ قال فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا‏}‏ أي‏:‏ سمع الله قول الذين قالوا ومحل ‏{‏الَّذِينَ‏}‏ خفض ردًّا على ‏{‏الَّذِينَ‏}‏ الأول، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ أمرنا وأوصانا في كتبه أن لا نؤمن برسول أي‏:‏ لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فيكون دليلا على صدقه، والقربان‏:‏ كل ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى من نسيكةٍ وصدقةٍ وعملٍ صالحٍ فُعْلان من القربة وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانًا أو غنموا غنيمةً جاءت نارٌ بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يُقبل بقيت على حالها‏.‏

وقال السدي‏:‏ إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم، ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ‏}‏ يا معشر اليهود ‏{‏رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ‏}‏ القربان ‏{‏فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ معناه تكذيبهم مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء، مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزيا لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 185‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏"‏ وبالزبر ‏"‏ أي‏:‏ بالكتب المزبورة يعني‏:‏ المكتوبة، واحدها زبور مثل‏:‏ رسول ورُسُل، ‏{‏وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ الواضح المضيء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كُلّ نَفْسٍ‏}‏ منفوسة، ‏{‏ذَائِقَة الْمَوْتِ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏لمّا خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدَها أن يرُدَّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي خلق منها‏"‏، ‏{‏وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ‏}‏ توفون جزاء أعمالكم، ‏{‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ‏{‏فَمَنْ زُحْزِحَ‏}‏ نُجيِّ وأزيل، ‏{‏عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ‏}‏ ظفر بالنجاة ونجا من الخوف، ‏{‏وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلا مَتَاع الْغُرُورِ‏}‏ يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ثم تزول ولا تبقى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له‏.‏

قال قتادة‏:‏ هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور‏:‏ الباطل‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا بن هارون، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا خطر على قلب بشر‏"‏ واقرءوا إن شئتم ‏"‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏"‏ السجدة- 17‏)‏ وإنَّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏"‏وظل ممدود‏"‏ الواقعة- 30‏)‏ ولموضعُ سوطِ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها واقرءوا إن شئتم ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغُرور‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ‏(‏186‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏ الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج‏:‏ نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمدّه، وكتب إليه كتابًا وقال لأبي بكر رضي الله عنه ‏"‏لا تفتاتَنَّ عليّ بشيء حتى ترجع‏"‏ فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال‏:‏ قد احتاج ربُّك إلى أن نمده، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تفتاتَنَّ علي بشيء حتى ترجع‏"‏ فكف فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال الزهري‏:‏ نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويسبُّ المسلمين، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله‏"‏‏؟‏‏.‏

فقال محمد بن مسلمة الأنصاري‏:‏ أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله قال‏:‏ ‏"‏فافعل إن قدرت على ذلك‏"‏‏.‏

فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له‏:‏ لم تركتَ الطعامَ والشرابَ‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال‏:‏ إنما عليك الجهد‏.‏

فقال‏:‏ يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول قال‏:‏ قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسَلْكانُ بن سلام وأبو نائلة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جُبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم، وقال‏:‏ ‏"‏انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم‏"‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة‏.‏

فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال‏:‏ ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكْتُمْ عليّ قال أفعل قال‏:‏ كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاءً عادتنا العربُ ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس، فقال كعب‏:‏ أنا ابن الأشرف أمَا والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا، فقال أبو نائلة‏:‏ إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامَك ونرهنك ونوثّق لك وتحسن في ذلك قال‏:‏ أترهنوني أبناءكم قال‏:‏ إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينةُ وَسْقٍ وهذا رهينة وسْقَينْ قال‏:‏ ترهنوني نساءكم قالوا‏:‏ كيف نرهُنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمتنع منك لجمالك‏؟‏ ولكنا نرهنك الحلقة يعني‏:‏ السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح، قال‏:‏ نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره‏.‏

فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب من ملحفته فقالت امرأته‏:‏ أسمع صوتا يقطر منه الدم، وإنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلِّمْهم من فوق الحصن فقال‏:‏ إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا‏:‏ يا بن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم‏؟‏ فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال‏:‏ لأصحابه إني فاتل شعره فأشّمه فإذا رأيتموني استمكنت

من رأسه فدونكم فاضربوه، ثم إنه شامَ يدَه في فودِ رأسه ثم شَمَّ يدَه فقال‏:‏ ما رأيت كالليلة طيبَ عروس قط، قال‏:‏ إنه طيب أم فلان يعني امرأته، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال‏:‏ اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحةً لم يبق حولَنَا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله، وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارَنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جُرح صاحبنا‏.‏

فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه‏"‏ فوثب مُحَيَّصَةُ بن مسعود على سُنَيْنَة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حُوَيِّصَة بن مسعود إذْ ذَاك لم يُسْلم وكان أسنَّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول‏:‏ أيْ عدو الله قتلته أما والله لرُبّ شحم في بطنك من ماله‏.‏

قال محيصة‏:‏ والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك، قال‏:‏ لو أمركَ محمد بقتلي لقتلتني‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب‏؟‏ ‏!‏ فأسلم حويصة وأنزل الله تعالى في شأن كعب‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنّ‏}‏ لتخبرنّ اللام للتأكيد وفيه معنى القسم، والنون لتأكيد القسم ‏{‏فِي أَمْوَالِكُمْ‏}‏ بالجوائح والعاهات والخسران ‏{‏وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏ بالأمراض وقيل‏:‏ بمصائب الأقارب والعشائر، قال عطاء‏:‏ هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورِبَاعَهم وعذّبُوهم وقال الحسن‏:‏ هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة، ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى، ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي العرب، ‏{‏أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا‏}‏ على أذاهم ‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ الله، ‏{‏فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ‏}‏ من حق الأمور وخيرها وقال عطاء‏:‏ من حقيقة الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ‏}‏ قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏ وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول، ‏{‏فَنَبَذُوه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ طرحوه وضيّعوه وتركوا العمل به، ‏{‏وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ يعني‏:‏ المآكل والرُّشا، ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليُعَلِّمْه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة‏.‏

وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ الآية‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر عمر بن سهل بن إسماعيل الدينوري، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتيّ، أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سُئل عن علم يَعْلَمَه فكتمه أُلِجْمَ يوم القيامة بلجام من نار‏"‏‏.‏

وقال الحسن بن عمارة‏:‏ أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت‏:‏ إن رأيتَ أن تحدثني‏؟‏ فقال‏:‏ أما علمتَ أني قد تركتُ الحديث‏؟‏ فقلت‏:‏ إمّا أن تحدثني وإما أن أحدثك فقال‏:‏ حدثني فقلت‏:‏ حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال‏:‏ سمعتُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول‏:‏ ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا قال‏:‏ فحدثني أربعين حديثا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏188‏]‏

‏{‏لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏لا تَحْسَبَنَّ‏}‏ بالتاء، أي‏:‏ لا تحسبن يا محمد الفارحين وقرأ الآخرون بالياء ‏"‏لا يحسبن‏"‏ الفارحُون فرحَهم مُنْجيا لهم من العذاب ‏{‏فلا يحسبنهم‏}‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ بالياء وضم الباء خبرًا عن الفارحين، أي فلا يحسبُنّ أنفسهم، وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي‏:‏ فلا تحسبنّهم يا محمد وأعاد قوله ‏{‏فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ‏}‏ تأكيدًا وفي حرف عبد الله بن مسعود ‏{‏لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ غير تكرار‏.‏

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت ‏{‏لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا إبراهيم بن موسى، أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم‏:‏ أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه‏:‏ اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له‏:‏ لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس‏:‏ ما لكم ولهذه إنمّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استُحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ كذلك حتى قوله‏:‏ ‏{‏يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏‏.‏

قال عكرمة‏:‏ نزلت في فنحاص وأُشيَع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك‏.‏

وقال قتادة ومقاتل‏:‏ أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء، وليس ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون‏:‏ ما صنعتم‏؟‏ قالوا‏:‏ عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون‏:‏ أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال‏:‏ ‏{‏يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏لقد جئت شيئا فريا‏"‏ مريم- 27‏)‏ أي‏:‏ فعلت، ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ‏}‏ بمنجاة، ‏{‏مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 190‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ ‏(‏190‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ يصرفها كيف يشاء، ‏{‏وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ‏}‏ أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا أحمد بن عبد الجبار، أنا ابن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رَقَدَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوّك ثم توضأ وهو يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاثَ مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول‏:‏ ‏"‏اللهم اجعل في بصري نورًا وفي سمعي نورًا وفي لساني نورًا واجعل خلفي نورًا وأمامي نورًا واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا اللهم أعطني نورا‏"‏‏.‏

ورواه كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد‏:‏ ‏"‏اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري نورًا‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ‏}‏ ذوي العقول ثم وصفهم فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 192‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ‏}‏ قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة‏:‏ هذا في الصلاة يصلي قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب‏.‏

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال‏:‏ ‏"‏صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏‏.‏

وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلَ ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث، نظيره في سورة النساء ‏"‏فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم‏"‏ ‏{‏النساء- 103‏}‏، ‏{‏وَيَتَفَكَّرُون َفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ وما أبدع فيهما ليَدُلّهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعًا قادرًا مدبرًا حكيمًا قال ابن عون‏:‏ الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة، ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ أي‏:‏ ويقولون ربنا ‏{‏مَا خَلَقْتَ هَذَا‏}‏ ردّه إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه، ‏{‏بَاطِلا‏}‏ أي‏:‏ عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب الباطل بنزع الخافض، أي‏:‏ بالباطل، ‏{‏سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار‏}‏‏.‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ أي‏:‏ أهنته، وقيل‏:‏ أهلكته، وقيل‏:‏ فضحته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخزونِ في ضيفي‏}‏ هود- 78‏)‏ فإن قيل‏:‏ قد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه‏"‏ التحريم- 8‏)‏ ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ قيل‏:‏ قال أنس وقتادة معناه‏:‏ إنك من تخلد في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أن الله يدخل قومًا النارَ ثم يخرجون منها‏"‏‏.‏ ‏{‏وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏193- 195‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا‏}‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وأكثر الناس، وقال القرظي‏:‏ يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏يُنَادِي لِلإيمَانِ‏}‏ أي إلى الإيمان، ‏{‏أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ‏}‏ أي‏:‏ في جملة الأبرار‏.‏

‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ‏}‏ أي‏:‏ على ألِسنَةِ رسلك، ‏{‏وَلا تُخْزِنَا‏}‏ ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا، ‏{‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِف الْمِيعَادَ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما وجه قولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ‏}‏ وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد‏؟‏ قيل‏:‏ لفظه دعاء ومعناه خبر أي‏:‏ لتؤتينا ما وعدتنا على رُسلك تقديره‏:‏ ‏{‏فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا‏}‏ ‏{‏وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ لتؤتِيَنا ما وعدتنا على رُسلك من الفضل والرحمة وقيل‏:‏ معناه ربنا واجلعنأ ممن يستحقون ثوابَك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألِسنَةِ رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، وقيل‏:‏ إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا‏:‏ قد عَلِمنَا أنك لا تخلف ولكن لا صبرَ لنا على حلمك فعجِّل خزيهم وانصرنا عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي‏}‏ أي‏:‏ بأني، ‏{‏لا أُضِيعُ‏}‏ لا أحُبط، ‏{‏عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ في الدين والنصرة والموالاة، وقيل‏:‏ كلكم من آدم وحواء، وقال الضحاك‏:‏ رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، كما قال‏:‏ ‏"‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏"‏ التوبة- 71‏)‏‏.‏

‏{‏فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي‏}‏ أي‏:‏ في طاعتي وديني، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة، ‏{‏وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا‏}‏ قرأ ابن عامر وابن كثير ‏"‏ وقتلوا ‏"‏ بالتشديد وقال الحسن‏:‏ يعني أنهم قطعوا في المعركة، والآخرون بالتخفيف وقرأ أكثر القراء‏:‏ ‏{‏وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا‏}‏ يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا‏}‏ وله وجهان أحدهما‏:‏ معناه وقاتل من بقي منهم، ومعنى قوله ‏{‏وَقُتِلُوا‏}‏ أي‏:‏ قُتل بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم والوجه الآخر ‏{‏وَقُتِلُوا‏}‏ وقد قاتلوا، ‏{‏لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَاالأنْهَار ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ نصب على القطع قاله الكسائي، وقال المبرد‏:‏ مصدر أي‏:‏ لأثيبنهم ثوابا، ‏{‏وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الثَّوَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ‏}‏ نزلت في المشركين، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين‏:‏ إن أعداء الله تعالى فيما نَرَى من الخير ونحن في الجهد‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ‏}‏ وضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وأنواع المكاسب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره‏.‏

‏{‏مَتَاعٌ قَلِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ هو متاع قليل وبُلْغَةٌ فانية ومُتْعَةٌ زائلة، ‏{‏ثُمَّ مَأْوَاهُمْ‏}‏ مصيرهم، ‏{‏جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ الفراش‏.‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً‏}‏ جزاء وثوابا، ‏{‏مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ نصب على التفسير وقيل‏:‏ جعل ذلك نزلا ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ‏}‏ من متاع الدنيا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، أنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد بن حُنَيْن أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَشْرُبَةٍ وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظًا مصبورًا، وعند رأسه أُهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال‏:‏ ما يُبكيك‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة‏"‏‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ‏}‏ الآية قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة‏:‏ نزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أخرجوا فصلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم النجاشي، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات، واستغفر له فقال المنافقون‏:‏ انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال عطاء‏:‏ نزلت في أهل نجران أربعين رجلا من بني حارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج‏:‏ نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ‏}‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ التوراة والإنجيل، ‏{‏خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏ خاضعين متواضعين لله، ‏{‏لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ يعني‏:‏ لا يحرفون كُتبَهم ولا يكتُمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة كفعل غيرهم من رؤساء اليهود، ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏ قال الحسن‏:‏ اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، وقال قتادة‏:‏ اصبروا على طاعة الله‏.‏

وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان‏:‏ على أمر الله‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ على أداء فرائض الله تعالى، وقال زيد بن أسلم‏:‏ على الجهاد‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ على البلاء، وصابروا يعني‏:‏ الكفارَ، ورابطوا يعني‏:‏ المشركين، قال أبو عبيدة، أي داوموا واثبتوا، والربطُ الشَّدُّ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم، ثم قيل‏:‏ لكل مقيم في ثغر يدفعُ عمن وراءه، وإن لم يكن له مركب‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سَوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها‏"‏‏.‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجُورْبَذي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شريح، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عبيدة بن عقبة، عن شرحبيل بن السِّمط عن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من رابط يومًا وليلةً في سبيل الله كان له أجرُ صيام شهر مقيم، ومن مات مرابطًا جرى له مثل ذلك الأجر، وأجري عليه من الرزق، وأُمن من الفتان‏"‏‏.‏

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن‏:‏ لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد الفقيه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات‏؟‏ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط‏"‏‏.‏

‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم ْتُفْلِحُونَ‏}‏ قال بعض أرباب اللسان‏:‏ اصبروا على النعماء وصابرُوا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء‏.‏